[مقهى ... ليل ... نساء ... برد ... ضجيج ... بخار متصاعد من الافواه يكاد يخطف برودة المكان ... مزيج من الناس يجلسون في مقهى في ليلة باردة, ضجيجهم واحاديثهم كقصة بوليسية متفرعة الخيوط, تلتقي حيناً تتباعد احياناً, تشوبها مشاعر حزينة مجهولة السبب ... حركة صاخبة في ذلك المكان, تكاد تعتقدها للوهلة الاولى مرسومة منظمة لرتبابة الاحداث فيها ليلة بعد ليلة, ابطالها هم دائماً سكان ذلك الحي البائس, فرحة ترتسم على الوجوه, ربما لاخفاء ما في تفوسهم من حزن دفين ... عيون تسافر عبر البخار والضجيج تحلم بغد افضل , او على الاقل غير الذي قبله ... موسيقى هادئة, الحان عراقية اصيلة, كاظم الساهر يغني موال الغربة .
وأنا ... جالس على طاولتي المعتادة في زاوية المقهى حتى اكاد ان ارى جميع الناس في ذلك المكان. كعادتي , دائماً اتناول قهوتي وفي يدي جريدة , استمع لتلك الموسيقى التي اقدسها من بين كل سمفونيات العالم, ربما سرحت معها حتى لم اعد ألاحظ اي حركة من حولي, لم اعد اهتم سوى بذلك الشيء الوحيد في تلك العلبة الملقاة على الطاولة امامي. انتظر احداً ليأتي محرراً لذلك الشيء اللعين الممتع ... تقطع افكاري ابتسامة ترتسم على شفتي تعبر عن عجزي وحقدي وسخريتي حيث انني اصبحت عاجزاً عن تحرير ذلك الشيء وحاقدأ عليه وساخراً من نفسي لعجزها الاسطوري عن فتح علبة ملقاة امامي فيها شيء واحد يحتاج لمفتاح من لهب, استغرب من تلك الاشياء التي يحررها اللهب وتحترق فيه لمتعة قصيرة يتذوقها انسان قد فقد انسانيته في هذا الموقف الرهيب .
لحظات ... زمن جامد, او ان ساعتي غبية, ربما ان ساعتي ذكية والوقت هو الغبي, لا املك رداً ... اطنان من الهلوسات تنهال كشلال احمق في دماغي, ولا يعكر صفو هذه الاحساس باللذة سوى معاودتي التفكير بتلك العلبة الساقطة , تلك العاهرة التي يستطيع فتحها اي كان, وانا الآن لم اعد قادراً على فتحها. كبريائي ... جبروتي وقفا عاجزين في تلك اللحظة الغبية من ذلك الزمن الاسود.
الناس ... ما زالوا يتبادلون احاديثهم بسلاسة منقطعة النظير. كلما افرطوا في تناول فناجين احزانهم, حتى اذا تذكروا طرفة او حادثة مضحكة راحوا ينفجرون دفعة واحدة في الضحك حتى يغدو المقهى وكانه دار اوبرا تعزف الحان القرون الغابرة مع كل ضحكة يطلقها احد الجالسين. ونساء قد اعتدن ذلك الجو, حيث عملن لسنوات طويلة في ذلك المكان يسهرن حتى الصباح ويقدمن المشروبات الساخنة والباردة طوال الليل لسكان المقهى حيث اصبحوا يمكثون فيه اكثر من بيوتهم, ولكن وجوه تلك الفتيات في المقهى لا يختلفن عن وجوه باقي سكان المقهى, حيث ملامح الاسى والاحزان الممتزجة بذلك الصخب الهادر قد طردت كل تعابير الجمال من وجوههن.
ولكن ... من سيحرر ذلك الشيء الاسطواني ليحترق, فيملأ قلبي نشوةً واحتراقاً. تمر تلك السمراء التي غدت هدفي في زيارة ذلك المقهى يومياً بل اكثر من مرة يومياً, عشقتها بغير كلام وعرفتها من دون لقاء, باتت تملأ علي وقتي وقهوتي وساعتي وجريدتي, عيناي تلاحقان شعرها لفرط ما فيه من سواد سديمي . دماغي نسي العلبة الملقاة امامي وذلك السجين بداخلها, وسافر بعيدأ عن راسي, عن المقهى وعن القهوة الى سمراء مرت لتوها من جانبي, فبت مشدوهاً , مصدوماً, غير قادر على التحكم بحواسي وغرائزي, مع كل عظمتي في تلك الجلسة الملوكية وحيداً, رزيناً, لم استطع ان احاول استيقافها.
فجأة ... تذكرت العلبة فأمدتني بشحنة من لهيب, من غضب, حرّكت اقدامي وارغمتها على السير وراء تلك الفتاة, واستجمعت كل طاقاتي العقلية والجسدية ووضعتها في لساني فنطق :
هل لنا ان نتحدث ؟
(جاء الجواب قاسياً , جافاً , حاداً )
- فيما بعد , فانا مشغولة كما ترى .
- سؤال آخر ؟
- تفضل وبسرعة .
- هل معكِ قداحة ؟
- نعم تفضل , وسأعود لأخذها بعد قليل .
عندها ... حصلت على مرادي , كلمتها . عيناي غاصتا في سواد شعرها , في رقة خصرها . وعدت الى طاولتي ظافراً منتصراً , متحدياً كل نساء العالم . وجدت العلبة البيضاء ما زالت ملقاة على طاولتي لم اكترث بها كثيراً حيث انني قد حصلت على مفتاحها, تناولتها برجولة مطلقة ... فتحتها ... تناولت ذلك السجين ووضعته بين شفتي ... اخرجت القداحة من بين اصابعي ... اشعلت سيجارتي ... امتلأت بالنشوة ... جلست انتظر وانتظر وانتظر حتى ماتت السيجارة … لم تعد السمراء ... ولكن بقي بين شفتي لهيب السيجارة.